vendredi 26 octobre 2012

بين الحماسة والملحمة

تتجلّى الملحة شعرًا قصصيًّا يونانيًّا مرتبطًا بالأفعال الخارقة التي يُنجزها أبطال أسطوريّون ضدّ الآلهة، متحدّين الجبروت والأقدار، ممكّنين النّاس من تطهير أنفسهم من مشاعر الخوف، وتصعيد المشاعر المكبوتة التي تفرض عليهم الإحساس بالضّعف والانكسار، وتتجلّى الحماسة شعرًا حربيَّا يقوم فيه الشّاعر بالدّعوة إلى رفض الظّلم، والسّعي إلى النّصر، فاختيار القتال، ومن هنا يمكن أنْ ننظر إلى النّوعين نظرة جامعة حين ندرك أنّهما معًا يدعوان إلى الاحتجاج والتّحريض، احتجاج على الضّعف والسّكينة في مرتبة بشريّة مهينة، وتحريض على الانعتاق والتّحرّر، وتحقيق المنزلة البشريّة المثلى . I. خصائص الشّعر الملحميّ تمثّل الملحمة مع المأساة والملهاة أهمّ أجناس الشّعر التّمثيليّ اليونانيّ القديم، فقد صنّف أرسطو الشّعر في كتابه "فنّ الشّعر" إلى ثلاثة أنواع هي الشّعر الملحميّ (La poésie épique)والشّعر الكوميديّ (La poésie comique) والشّعر الدّراميّ (المأسويّ) (La poésie dramatique) ، أمّا "منظّرو الجماليّة اللاّحقون فقد جعلوا الشّعر ثلاثة أنواع هي الملحمة (L’épopée) والشّعر الغنائيّ (La poésie lyrique) والشّعر الدّراميّ(La poésie dramatique)، مسقطين التّراجيديا (La tragédie) والكوميديا (La comédie)" . فنلاحظ أنّ الملحمة تمكّنت لأهميّتها من الحفاظ على موقعها في التّصنيفين، واتّفق أغلب النّقّاد والدّارسين على حصر الشّعر في ثلاثة أنواع رئيسيّة هي الشّعر الملحميّ، والشّعر الغنائيّ، والشّعر التّمثيليّ . ويتميّز الشّعر الملحميّ بميزات أهمّها امتزاجه بالسّرد ليتحوّل إلى ما يشبه الفنّ القصصيّ، ونقله لأفعال العظمة، وتصويره للخوارق والأهداف الكبيرة، والآمال العريضة التي قد تتجاوز الواقع والإمكانيّات، واهتمامه بالبطل الواحد الذي يسعى من وراء صراعه إلى القضاء على مأساة أمّة بأسرها، وهزم أعدائها، وحماية وجودها، وتحقيق سعادتها، وللملحمة كما يرى جورج غريب "موضوع بطوليّ شعبيّ، وهو صراع بين حضارتين، صراع من أجل البناء البشريّ، والوجود الإنسانيّ، فلذلك وجب على حروب الملاحم أنْ تدور حول كرامة أمّة، وحماية تراث، وإثبات حقّ، وتدعيم مصير أو كيان . والملحة صراع حربيّ أو لا تكون، يمتزج فيها الواقع بالأسطورة، وتختلط الآلهة بالبشر، وتتعايش العقائد والخرافات، وتتزاحم الأطراف غير المتكافئة من حيث موازين القوى، في صراع حربيّ عنيف، يُخلّد فيه المنتصر والمهزوم على حدّ سواء . وتروي الملحمة أعمالاً جبّارة لأبطال أفذاذ ظلّوا في الأذهان والوجدان أمثلة في التّحدّي والعزيمة والإصرار على مغالبة الصّعاب، وقهر المستحيل، وهزم الكائنات الأقوى . فما هي الخصائص التي يجب أنْ تتوفّر في قصيدة ما حتّى نعدّها من الملاحم؟ ـ الملحمة قصّة شعريّة يغلب السّرد فيها على الوصف، وتعتني بذكر الشّخصيّات والأعمال. ـ الطّول فلا تكون قصيرة خاضعة لشروط الارتجال والشّفاهيّة والتّلقّي السّمعيّ الحينيّ. ـ الشّاعر فيها سارد لا متغنٍّ. ـ الاعتناء فيها بشخصيّة البطل الفرد الخارق العظيم أساسًا. ـ تخليد أعمال جبّارة. ـ توفّر القتال الحربيّ العنيف. ـ الصّراع بين طرفين مختلّيْ ميزان القوى. ـ ديمومة الصّراع في الزّمان والمكان. ـ بقاء الصّراع خالدًا في وجدان الأمّة وتاريخها. ـ بقاء البطل خالدًا رغم هزيمته، وذلك بتحويل الهزيمة إلى انتصار تخييليّ شعريّ. ولمّا كانت الملحمة في الأصل نوعًا شعريًّا يونانيًّا له كلّ هذه الخصائص، فهل يمكن أنْ نقول إنّ العرب عرفوا الملحمة وإنْ بنوع من التّجاوز المفهوميّ الاصطلاحيّ الدّقيق؟ هل يمكن اعتبار أشعار الحرب والحماسة من الشّعر الملحميّ حين تتوفّر فيها تلك الخصائص المذكورة سابقًا؟ أمْ أنّ تاريخ العرب الخالي من الأساطير التي تعكس الصّراع بالآلهة والقوى الخارقة، يحرمهم من معرفة الملحمة؟ وهل يمكن القول إنّ الحماسة ملحمة لأنّ في الملحمة تحريضًا؟ II. الملحمة والشّعر العربيّ يبدو لنا أنّ العرب في الجاهليّة كانوا أقرب ما يكون إلى معرفة الملاحم لظروف بيئتهم المتّسمة بالخشونة والصّعوبة وقسوة العيش فيها، ولظروف حياتهم المتّسمة بكثرة الصّراعات بين القبائل والعشائر، ولانتشار لغة الحروب بينها بحثًا عن أسباب العيش، والدّفاع عن الوجود، ومقامة الفناء، وكثرة التّطاحن بسبب قلّة موارد الاقتصاد، ولشيوع نغمة التّفاخر بالأصل والتّعلّق الشّديد بالرّابطة الدّمويّة الضّيّقة ، ولتجيد قيم البطولة والفروسيّة والقتال والعنف وهزم الأعداء والقضاء على الآخر، وسيادة الجميع ، ويمكن أنْ نعدّ تلك الحروب التي دارت في الجاهليّة بين بعض القبائل العربيّة بمثابة الملاحم لطول مدّتها الزّمنيّة ولكثرة ما أسقطت من ضحايا، وما عقدت من تحالفات بين القبائل، ومنها حرب داحس والغبراء التي دامت قرابة الأربعين عامًا حسب ما يذكر المؤرّخون، وحرب البسوس. فلماذا تُستثنى هذه الحروب من سجلّ الملاحم؟ ولماذا يُنكر أغلب الدّارسين الاعتراف بوجود ملاحم شعريّة عربيّة قديمة؟ يبدو أنّ الأمر يتعلّق بمجموعة من الأسباب أهمّها أنّ الملحمة ـ بالمعنى اليونانيّ ـ تعكس بطولة شخص يناضل من أجل جماعة، ويصارع قوى غيبيّة قاهرة، بينما نجد في أشعار الجاهليّين تركيزًا على الجماعة القبليّة عوض التّركيز على البطل الفرد، وهذه الجماعة تواجه جماعة بشريّة أخرى ولا تواجه القوى الغيبيّة، وإنْ كان الصّراع حربيًّا دمويًّا، إضافة إلى أنّ الشّاعر الذي نقل هذه الوقائع إلى الشّعر لم يعتنِ بالجانب القصصيّ، فلم يُكثّف السّرد، ولم يعتنِ بتحديد الأطر، وسرد الأحوال، ولم يتعمّق في الوصف، بل إنّه انصرف في الغالب إلى العناية بالجانب الغنائيّ، من حيث التّركيز على الجانب الإيقاعيّ السّمعيّ لارتباط الشّعر بالإلقاء الشّفويّ والتّلقّي السّمعيّ، واقتراب الشّعر من الارتجال والسّليقة، وهو ما حرم القصيدة العربيّة من الإطالة المشروطة في الملحمة، فالقصيدة العربيّة مهما يبلغ طولها لم تتجاوز بعض الأبيات فيها المائة، إضافة إلى ما يُعاب عليها من تفكّك واستقلال أبيات، فالقصيدة العربيّة القديمة ـ ومنها المعلّقة ـ تجمع بين بعض المواضيع والأقسام التي لا علاقة لها بالحروب والشّجاعة والبطولة والفروسيّة، ومنها الطّلل والنّسيب، وهذان القسمان يبعدان القصيدة عن أجواء الملحمة كلّيًّا، بل ويجمعان بين معنيين متناقضين، هما التّشكّيّ في الطّل، والتّغنّي في النّسيب، والنّسيب يتحوّل بدوره إلى تشكّ حين يشكو الشّاعر البعد والفِراق، ثمّ يكون قسم الرّحلة ووصف الرّاحلة فلا حديث عن الحرب والقتال، بل لعلّه حديث عن الصّبر والتّجلّد في تحمّل أعباء السّفر، وافتخار بالرّاحلة النّاقلة للشّاعر، ثمّ يكون القسم الأخير في الفخر أو المدح، وهما قسمان محدودان كميًّا مقارنة ببقيّة أبيات القصيدة، ولا يمكنّانها من اعتبارها من الملاحم. وبناءً عليه نرى أنّ كثرة الأقسام في القصيدة العربيّة الجاهليّة، والجمع بين كثرة من المواضيع، وغياب العنصر القصصيّ المتين المتماسك، واستقلال الأبيات، وسيطرة الوصف على السّرد، وغلبة التّشكّيّ والتّغنّي على إبراز أفعال البطولة والخوارق، تمنعنا من الإشارة إلى القصائد الملحميّة، وإنْ كانت أشعار حرب وقتال، و"لو أطال شعراء الجاهليّة الوقوف عند القصّة، فما اكتفوا بالخبر العاجل، والسّرد السّريع، لكان لهم في باب الملاحم شأن غير الذي نسجّله لهم" . فإذا كان الأمر على ما بيّنّا في الشّعر العربيّ الجاهليّ، فكيف هو الحال في الشّعر العربيّ بعد الإسلام؟ هل توفّرت فيه بعض الخصائص الملحميّة التي من شأنها أنْ تسوّغ لنا تصنيف بعضه ضمن الملاحم الشّعريّة؟ III. الملحميّ في شعر الحماسة بدا لنا ونحن نتصفّح كثيرًا من الكتب المتّصلة بموضوع الحماسة والملحمة، وما بينهما من وشائج، أنّ كثيرًا من الدّارسين لمسوا الموضوع بنوع من الاحتراز والتّحفّظ دون جرأة يفرضها المقام العلميّ، فأغلبهم يجد في أشعار الحماسة العربيّة في الجاهليّة والإسلام بعض مظاهر الائتلاف مع الملحمة، لكنّه لا يتجرّأ على تصنيفها ضمن الملحمة لأنّ فيها بعض المظاهر التي تخالفها، منها مثلاً غياب عنصر الطّول، وتفكّك الرّوابط بين أجزاء القصيدة العربيّة، وضعف الجانب القصصيّ فيها، وضمور حضور الملامح الأسطوريّة، ولعلّنا هنا نستثني مبروك المنّاعي لأنّه بدا لنا من الدّارسين الذين تملّكوا الجرأة المطلوبة في النّظر إلى شعر الحماسة من زاوية الملحمة، أثناء معالجته لشعر المتنبّي المدحيّ في سيف الدّولة، فقد اعتبر أبا الطّيّب أهمّ منْ طوّر تصوير ظاهرة الحرب والغزو وما تتطلّبه من قيم الحماسة، فقد "كثّف هذا المعنى وطوّره ونوّع فيه أيّما تنويع ورفعه إلى أعلى ما ارتفع إليه من مراتب الجودة والإبداع في تاريخ الشّعر الحماسيّ عند العرب،واتّخذ معه نفسًا ملحميًّا، أصبحت معه المقارنة بينه وبين شعراء الملاحم العالميّين ممكنة جدًّا" . ونعتقد أنّ البحث في أشعار الحماسة عن الملحمة بالمعنى اليونانيّ الدّقيق أمر غير ممكن، لاختلاف البيئة اليونانيّة عن البيئة العربيّة ـ في الجاهليّة والإسلام ـ من النّواحيّ الثّقافيّة المختلفة، ويكفي هنا التّذكير بخلوّ الثّقافة العربيّة من الصّراع الحادّ بين الإنسان والإله، وانعدام توفّر قصص شعريّة تمجّد أشخاصًا تحدّوا الآلهة لإسعاد البشريّة، إضافة إلى أنّ العلاقة بالإله لم تكنْ على تلك الصّورة التي عليها علاقة اليونانيّ بآلهته. لذا لا بدّ من النّظر إلى أشعار الحماسة العربيّة في إطارها الثّقافيّ المخصوص، والبحث فيها عن بعض الملامح الملحميّة، واعتبارها من الملحمة بغضّ النّظر عن الصّرامة الاصطلاحيّة. وسنقوم بالبحث عن تلك الملامح في قصائد حماسة أبي تمّام والمتنبّيّ وابن هانئ الأندلسيّ انطلاقًا من الخصائص المذكورة سابقًا. 1. الملحمة قصّة حربيّة إنّ من الملامح التي تعزّز قولنا بأنّ قصيدة الحماسة ملحمة، كون الشّاعر في غالب الأحيان يتّخذ من الحرب موضوعًا رئيسيًّا لقصيدته فلا يخالطه موضوع آخر وإنْ كان على صلة قويّة به، لذلك نلاحظ التّخلّي عن المطالع التّقليديّة من طلل ونسيبٍ، وتجاوز تامّ لقسم الرّحلة، وابتكار لمطالع مستحدثة لها بالحرب صلة قويّة، مثل المطلع الحكميّ الذي يعزّز القول بالحرب لما يذكر من قيم الشّجاعة والبطولة والفروسيّة، والاحتكام إلى السّيف، مثل قول أبي تمّام: السّيف أصدق أنباءً من الكتبِ فيحدّه الحدّ بين الجدّ واللّعبِ وقول أبي الطّيّب: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ ومثل المطلع التّمجيديّ، مثل قول ابن هانئ: يوم عريضٌ في الفَخَارِ طويلُ ما تنقضي غُرَرٌ له وحُجُولُ والمطلع الفخريّ المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشّجاعة والقتال، مثل قول المتنبّيّ: غيرِي بأكثر هذا النّاسِ ينخدعُ إنْ قاتلوا جَبُنُوا أوْ حدّثوا شَجُعُوا ثمّ تكون بقيّة الأبيات كلّها في الحرب ومتعلّقاتها المختلفة، سواء منها ما تعلّق بالجانب المادّيّ المحسوس، والواقعيّ التّأريخيّ، أو ما تعلّق منها بالجانب القيميّ، وهو ما نلاحظه مثلاً في شعر أبي الطّيّب لاسيّما المرتبط منه بسيف الدّولة الحمدانيّ، فـ"ـقد صحبه المتنبّي واختبر بنفسه عظائم الحرب وأهوال الوقائع، رأى الجيوش في ساحة الحرب وخاض غمار القتال مع المجاهدين، فشاهد الأبطال تشتبك بالأبطال، والفرسان تطارد الفرسان، والسّيوف والرّماح تسيب بدماء الأعداء، هبط الأودية، وصعّد في النّجود، وذاق مرارة الهزيمة، ولذّة الظّفر، فأبدع في وصف ذلك غاية الإبداع" . ومن القصص الحربيّة الواردة في أشعار الحماسة نجد قصّة فتح المعتصم مدينة عمّوريّة بعد استنجاد أهل زبطرة به وقد هاجمهم الرّوم، وروّعوهم بالقتل والخطف، وساموهم بالأسر والسّبي، وتعدّوا على حرمة ديارهم وأعراضهم، وانتهكوا قداسة معالمهم الدّينيّة، فهبّ المعتصم وجيشه هبّة رجل واحد، وألقى ما في يده من أقداح الشّراب، وترك خدره للنّساء، وهجر "رضاب العُرب الخرّد"، واتّجه صوب مدينة عموّريّة منتقمًا من البيزنطيّين وقائدهم الدّمستق لأنّها مسقط رأسه مثلما كانت عمّوريّة مسقط المعتصم، وهناك في تلك القصيدة "الدّاليّة" الخالدة،يصوّر أبو تمّام أجواء الحرب دون أنْ يفارق ساحة القتال، ودون أنْ يخالطها بموضوع آخر فرعيّ. 2. الملحمة قصّة شّعريّة إنّ الباحث في أشعار حماسة هؤلاء الشّعراء الثّلاثة يلاحظ دون شكّ توفّر العناصر القصصيّة في قصائدهم، فهم يسردون أفعال الاستعداد إلى القتال من إعداد الجيش، وجمع العدّة، والتّحرّك لملاقاة العدوّ إمّا غزوًا مثلما حصل في مدينة عمّوريّة، أو تحريرًا مثلما حصل في مدينة الحدث، وإقدام جيوش العرب المسلمين على القتال دون تنافر أو تخاذل، والتقاء الجيشين، وحسن أداء الجيش ونجاعته القتاليّة، وتحقيق النّصر بقتل فلول من الأعداء، وتشريد فلول أخرى، وهروب آخرين، وأسر بعضهم الآخر، وترك الجثث طعامًا للنّسور، وجمع الغنائم من الأسلحة والمتاع. ففي القصيدة التي مدح بها ابن هانئ الأندلسيّ المعزّ مهنّئًا بتحقيقه الانتصار على الرّوم في موقعة "المجاز" بـ"ميسينا" سنة 354هـ، سرد الشّاعر ـ بعد المطلع التّمجيديّ ليوم النّصر ـ عبر الشّعر مختلف حيثيّات قصّة الحرب والنّزال، فبدأ بسرد كيفيّة استعداد العدوّ بجمعه العدد والعدّة، وتعبئة الأسطول، وتحرّكه في اتّجاه السّاحل، وتركه حمولة الأسطول عند المسلمين بعد تحقّق الهزيمة، ثمّ سرد التقاء الجيشين، وكيف انتصرت القلّة على الكثرة، فقال: وافى وقد جمع القبائل كلَّها وكفاه من نصر الله قبيلُ جمع الكتائبَ حاشدًا فثناهم لك قبل إنفاذ الجيوشِ رعيلُ والنّصر ليس يبينُ حقَّ بيانِهِ إلاّ إذا لقيَ الكثيرَ قليلُ إنّ شعر الحماسة بهذا المعنى لم يكنْ مجرّد شعريّ مدحيّ أو فخريّ أو رثائيّ تُذكر فيه القيم المجرّدة كالشّجاعة والبطولة والبأس والعزم والإقدام والصّبر على المكاره، وإنّما كان شعرًا فيه خصائص الفنّ القصصيّ، ويحضر فيه السّرد والوصف بشكل ملفتٍ للانتباه، وتتعدّد فيه الشّخصيّات، وتُحدّد فيه الأطر الزّمانيّة والمكانيّة، ممّا يجعل هذا الشّعر قريبًا من الشّعر الملحميّ الذي يشترط أوّلاً الجانب القصصيّ، وهو ما ينطبق على شعر أبي تمّام المدحيّ مثلاً، فهو لم يكنْ يمدح حاكمًا سياسيًّا في البلاط بين وزرائه وحاشيته، وإنّما كان يمدح قائدًا ميدانيًّا يتحرّك في الزّمان والمكان، ويُنجز بالسيّف واللّسان، وكان أبو تمّام مثل عدسة الكاميرا ـ في وسائل الإعلام الحديثة ـ يتتبّعه وينقل خطواته لحظة بلحظة، وإنّ في هذه المدحيّات "التي تناولت الوقائع الحربيّة يحضر السّرد بقوّة، وتتنزّل الأعمال المسندة إلى الأبطال في أطر وفضاءات محدّدة في الزّمان والمكان، وتحضر الأعلام بأسمائها الخاصّة، كما يميل الوصف الشّعريّ إلى المشهديّة والتّصوير" . فمن الخصائص القصصيّة المتّصلة بالحرب، تحديد الشّاعر الزّمان وهو صيفيّ قبل نضج التّين والعنب، إذ يقول: تسعون ألفًا كآساد الشّرى نضجتْ جلودهم قبل نضج التّينِ والعنبِ وقد فصّل أبو تمّام في الأبيات الأولى من القصيدة كيف خوّف المنجّمون المعتصم والمسلمين من خطر اتّخاذ قرار الحرب قبل حلول الزّمن المذكور سابقًا، ومنه قوله: وخوّفوا النّاسَ من دهياء مظلمةٍ إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذّنبِ وحدّد المكان حين ذكر اسم مدينة عمّوريّة، ثمّ كان التّركيز بعد ذلك كلّه على حدث الحرب، ذاكرًا تفاصيل أجواء عمليّة الاقتتال، وما دار بين المسلمين والبيزنطيّين من نزال شرس، فهذه المدينة التي ظلّت حصينة منيعة طوال الدّهر، وعجز كلّ منْ هاجمها عن اختراق حصونها وغزوها، سقطت في أيدي المسلمين، وقد سفكت دماء جيوشها الفرسان: كمْ بين حيطانها من فارسٍ بطلٍ قاني الذّوائبِ من آني دمٍ سرِبٍ وأصبحت أجسامهم بالدّماء، وتحوّل النّهار إلى ليل من كثرة الأدخنة المنبعثة، وتحوّل اللّيل إلى نهار لكثرة النّيران المشتعلة: غادرتَ فيها بهيمَ اللّيلِ وهو ضحًى يُقِلِّهُ وسطها صبحٌ من اللّهَبِ حتّى كأنّ جلابيبَ الدّجَى رغبتْ عن لونها أو كأنّ الشّمس لم تَغِبِ ضوءٌ من النّارِ والظّلماءِ عاكفةٌ وظلمةٌ من دخانٍ في ضحى شَحِبِ ثمّ عاد الشّاعر ليذكر بطولة المعتصم، ويصوّر أبطاله، وكأنّه عاد ليبيّن أسباب تحقّق هزيمة البيزنطيّين، فالمعتصم قائد عظيم يقود جيشًا من الرّعب، استطاع هدم الأسوار واختراق الحصون، والتّنقّل بين الثّغور محقّقًا النّصر تلو الآخر: لمْ يغزُ قومًا ولمْ ينهضْ إلى بلدٍ إلاّ تقدّمه جيشٌ من الرّعبِ لو لمْ يقدْ جحفلاً يوم الوغى لغدا من نفسه وحدها في جحفلٍ لجبِ رمى بك الله برجيها فهدّمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ ثمّ التفت الشّاعر إلى الطّرف الآخر من الحرب وهو عدوّه البيزنطيّ "تيوفيل"، فصغّره وأهانه، وقزّم قدراته القتاليّة، وصوّر فراره مع بعض أفراد جيشه ممّنْ تمكّن من الفرار، وذكر خيبته الأخيرة رغم محاولة فداء نفسه بالأموال الوفيرة: لمّا رأى الحرب رأي العينِ توفلسٌ والحربُ مشتقّة المعنى من الحَرَبِ غدا يصرّفُ بالأموالِ جِريتها فعزّه البحرُ ذو التّيّارِ والعبَبَبِ هيهات زعزعت الأرض الوقور به عن غزو محتسبٍ لا غزو مكتسبِ وقصّة الحرب هذه احتوت ثلاث مراحل مهمّة حسب ما تتطلّب القصّة من وضع بداية، وسياق تحوّل ووضع ختام، فالمرحلة الأولى كانت بوجود الاحتياج (والافتقار) وهو غزو البيزنطيّين لمدينة زبطرة، واتّخاذ المعتصم قرار الحرب، ورفض المنجّمين ذلك بدعوى أنّ الزّمن غير مناسب حسب قراءة علم التّنجيم وحركة النّجوم، ورفض المعتصم ذلك، ثمّ كانت المرحلة الثّانية وهي سياق التّحوّل، حيث سار المعتصم بجيشه إلى مدينة عمّوريّة، وملاقاة جيش العدوّ، وخوض القتال، والصّبر عليه لما فيه من مكاره وصعاب، ثمّ كانت المرحلة الثّالثة والأخيرة وهي وضع الختام حين تحقّق النّصر، وتمكّن المعتصم من هزم أعدائه والانتقام من "تيوفيل"، وكانت هذه المرحلة الأخيرة في أوّل القصيدة وكأنّ الشّاعر أراد البدء بها من أجل التّشويق لمعرفة تفاصيل القصّة الحربيّة، وتبيّن كيفيّة تحقّق ذلك، فقال: فتحُ الفتوح تعالى أنْ يحيط به نظمٌ من الشّعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ فتحٌ تَفتَّحُ أبوابُ السّماءِ له وتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبُ يا يوم وقعة عمّوريّةَ انصرفتْ منك المُنَى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَبِ أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صَعَدٍ والمشركينَ ودَارَ الشِّرْكِ في صَبَبِ 3. الملحمة قصّة بطل فرد خارق إنّ الملاحم اليّونانيّة القديمة تقوم بالأساس على شخصيّة بطل فرد خارق، يصارع القوى الخفيّة، ويحارب الآلهة وحده، ويتحدّى قوّتها الجبّارة، ولا يكترث بالاختلال الصّارخ لموازين القوى بينه وبينها، وهو يُدرك في الغالب حجم العراقيل التي تتربّص به لتحطّم سعيه، والمتأمّل في شعر الحماسة في أشعار أبي تمّام والمتنبّيّ وابن هانئ الأندلسيّ يجد بوضوح تامّ التّركيز المطلق على شخصيّة القائد البطل، الفرد الأوحد دون غيره، بل إنّ ذكر الجنود والأعوان لا يخرج عن دائرة تمجيده وتعظيمه، وذكر مدى قدرته على قيادتهم والتّحكّم بهم والسّيطرة عليهم، وإنفاذ رأيه فيهم، وتسطير المسارات لهم لتحقيق الأهداف العظيمة. إنّ بطل شعر الحماسة قائد ميدانيّ يمتلك من الصّفات ما يجعله فوق البشر، فهو شجاع يتّخذ قرار الحرب دون تردّد أو تثنٍّ، وذو عزم يعدّ للحرب ما استطاع "من قوّة ورباط خيل"، وذو نفوذ في قومه يجمع ما يريد من ألوف مؤلّفة من المحاربين ولا يعصون أوامره، وذو فراسة يختار الفرسان الأقوياء، وذو مال يعدّ ما يحتاجه الجيش من أسلحة كثيرة ومتنوّعة، وذو رأي راجح وعقل مدبّر يخطّط للحرب، ويعدّ الخطط المتنوّعة التي تتلاءم مع زمان الواقعة ومكانها، وتتماشى مع وضع جيشه ووضع جيش العدوّ، وهو ذو جرأة يخرج للحرب ويقود الجيش بنفسه ولا يعوّل على غيره من القادة والفرسان، وذو بأس يتقدّم الجيش في ساحة الحرب، وذو قدرة على القتال يشارك فيه، وذو حنكة قتاليّة يصابر على القتال ولا يتراجع عنه، وذو نجاعة حربيّة يحقّق بها النّصر ولا يفشل ولا تذهب ريحه، وذو صولات وجولات فيفرّق الأعداء ويقضي عليهم، وهو في النّهاية أبيّ شامخ يعيد إلى أمّته مجدها المهدور، ويصون كرامتها، ويحمي عرينها من هجمات الغزاة والمتمرّدين. وهذا البطل الذي يصوّره شاعر الحماسة له قدرات خارقة تتجاوز قدرات البشر، فكأنّه يتحوّل إلى بطل أسطوريّ يأتي الأفعال العجيبة، وهو ما ينطبق على أمير حلب سيف الدّولة الحمدانيّ الذي رآه المتنبّيّ ملكًا يُخضع الملوك لسلطته لا البشر العاديّين فقط: تظلّ ملوك الأرض خاشعةً لهُ تُفارقُهُ هلكَى وتلقاهُ سُجّدَا وتحيي له المالَ الصّوارمُ والقنا ويقتُلُ ما تحيي التّبسُّمُ والجدًا ذكيٌّ تَظَنِّيهِ طليعةُ عينِهِ يرى قلبُهُ في يومه ما ترى غدَا وصولٌ إلى المستصعباتِ بخيله فلو كان قرنُ الشّمسِ ماءً لأوردَا وهذه الصّورة التي يرسمها المتنبّيّ لسيف الدّولة ظلّت هي نفسها الصّورة النّموذجيّة في كلّ شعره الموجّه إليه، لأنّه كما ذكر المنّاعيّ "الأمير العربيّ الأقوى في زمنه، والأمل والمثال الذي تعلّق به وعوّل عليه في إنجاز ما تطلّع إليه وحلم به" . وسيف الدّولة يتحدّى الموت ومنْ يهدّدونه به، ويقضي عليهم وحده وهم مجتمعون: أتوك يجرّون الحديد كأنّهمْ سروا بجيادٍ ما لهنّ قوائمُ ضممتَ جناحيهم على القلبِ ضمّةً تموتُ الخوافِي تحتها والقوادمُ نثرتَهمْ فوق الأحيدبِ كلِّهِ كما نُثرتْ فوق العروسِ الدّراهمُ وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ كأنّك في جفنِ الرّدى وهو نائمُ تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهُكَ وضّاحٌ وثغركَ باسمُ تجاوزت مقدار الشّجاعة والنّهَى إلى قولِ قومٍ أنتَ بالغيبِ عالمُ ولم يختلف أبو تمّام عن أبي الطّيّب المتنبّي من حيث التّركيز على القائد الأوحد، واعتباره بطلاً خارقًا يصارع كلّ الأعداء بمفرده، وينسب إليه كلّ أسباب تحقيق النّصر، فانتصار الجيش في واقعة عمّوريّة يعود إلى حسن تدبير المعتصم، وحسن أدائه في الحرب، وهو الذي جيّش النّاس، وهيّج العواطف الدّينيّة، لذلك يقول: تدبير معتصمٍ باللهِ منتقمِ للهِ مرتقبِ في اللهِ مرتغبِ وذكر المعنى نفسه حين مدح أبا سعيد الثّغريّ حين جعله سبب استعادة الأمصار العربيّة هيبتها، وهو القائد الذي يسيّر الجيوش باقتدار شديد، وقد نسب إليه كلّ الأفعال من النّاحية النّحويّة، وقد قال: قد صرّحت عن محضها الأخبارُ واستبشرت بفتوحك الأمصارُ لو جلادُ أبي سعيد لم يزلْ للثّغرِ صدرٌ ما عليهِ صِدارُ وتتّضح هذه الصّورة الإعلائيّة التّأليهيّة في شعر ابن هانئ الأندلسيّ أكثر حين يجعل نصر المسلمين رهين تدبير أميره المعزّ لدين الله الفاطميّ، وذلك حين يخاطبه قائلا: نصرَ الإلهُ على يديك عبادهُ واللهُ ينصرُ منْ يشاءُ ويخذُلُ "وهو الحاكم في الورى والكون: أدار كما شاء الورى وتحيّزتْ على السّبعة الأفلاك أنمله العشرُ وهو أخيرًا متحكّم بأفعاله وإنجازاته في مشيئة الأقدارِ: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ فاحكمْ فأنت الواحد القهّارُ 4. الغاية الجماعيّة إنّ بطل الملاحم لا يقاتل من أجل غاية فرديّة تخصّ شخصه وحده فقط، ولا يبحث عن مجد شخصيّ، أو ربح مادّيّ، أو سلطان في الأرض يورّثه أبناءه أو بني عشيرته، فـ"بروموثيوس" سرق النّار من الآلهة وأعطاها إلى البشر كي يستثمروها في حياتهم، ويستفيدوا بمنافعها، والقائد المتغنّى بأفعاله وإنجازاته في شعر الحماسة يبدو شبيهًا بالبطل الملحميّ من حيث إصراره على تحقيق مجد أمّته، واستعادة أرضها وهيبتها، لذلك نرى أبن هانئ يقول: ذا المجدُ لا يُبغى سواه وذا الذي يبقى لآل محمّدٍ ويُؤثلُ ويقول أبو تمّام في إطار مدحه المعتصم بعد انتصاره على بابك: فاسلم أمير المؤمنين لأمّةٍ أبدَلْتَهَا الإمراعَ بالإمحالِ أمسى بك الإسلامُبدرًا بعدما مُحِقَتْ بشاشتُهُ مُحَاقَ هلالِ عبد الوهاب الشتيوي ـ صفاقس

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire